recent
اخر الاخبار

هارب من الوباء والبلاء..البرد والجوع وبائع النقانق في مشرع بلقصيري

الصفحة الرئيسية


 كتبها أحــمد الجـــلالي

في هذا الحجر  الصحي المضروب حول العالم، والذي يشبه عقابا كونيا للأسرة البشرية جمعاء يخشى الناس الجوع ويزيد من وطأة هذا الإحساس الغريزي قصصه التي تنشر هنا وهناك من أرشيفات الماضي أو من حقائق أحداث الحاضر.

سمعت وأنا طفل كثيرا من قصص "بوهيوف" الذي ضرب المغاربة في القرون الخوالي، لكنها تبقى عندي مجرد حكايات لا غير.ما أنا متأكد منه هو ما رأيه أو عشته كتجربة حسية سألملم لكم خيوطها من مخزون الذاكرة لقطة لقطة.

 الزمن: مساء يوم بارد ماطر من شتاءات أواسط عقد الثمانينات.المكان: مشرع بلقصيري ، قبالة سينما الريف، غير بعيد عن المارشي على الرصيف المقابل لحديقة المدارة التي تتوسط شارع محمد الخامس حيث كانت مقرا ليليا لـ"عبسلام لهبيل".

 كنت ولم أكن محظوظا بعدم قبولي في الأقسام الداخلية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وقبل أن أكتري غرفة صغيرة وأصبح سيد نفسي في "مملكتي الصغيرة" تلك، كنت أقطن عند أسرة من أقارب أقارب والدي رحمه الله.

وجبة عشاء تلك الليلة لم تكفني ولم يكن هناك طريق لمزيد خبز. ولكي أبدد بعضا من حنقي وألم أمعائي شبه الخاوية خرجت متسكعا قاصدا اللاشيء، وليس رفقتي أحد والحركة شبه منعدمة في الشارع اللهم بعض قطط مشردة تبحث يائسة عما تسد به رمقها.

 التففت على الحديقة حذرا من خروج عبد السلام لهبيل بسكينه التي كان يقصقص بها رزم الكيف فيباغتني بخطر جنونه الذي كان يصعد وينزل حسب فترات اليوم، فتارة يكون هادئا شبه عاقل وتارات يهيج فيفر الناس من عصاه التي رأيته مرة "يكفكف" بها على شاب يركض أمامه كأرنب مذعور والعصا تندفع خلفه بقوة كسهم يلاحق الطريدة.

دفعتني قدماي إلى سور البلدية الحديدي حيث كان منظر الشجيرات المصفوفة بعناية مشهدا شاذا برومانسيته قياسا إلى ألم جوعي، ثم طويت راجعا بلا هدف محدد.

الشوارع مبللة والماء تحت ضوء مصابيح  الإنارة العمومية يبدو صفائح لامعة تميل إلى الشحوب، أو كذلك بدت لي.

استدرت وطفت حول "المارشي" كنمر بغابة شتوية يبحث بلا طائل عن فريسة. لا شيء. ثم توقفت بلا سبب قرب شجيرة. التفت يسارا فإذا بسكارى غادروا سينما الريف للتو يقفون في صف أمام بائع النقانق/الصوصيط.

كان ذلك الرجل مثل تمثال يقف كل مساء خلف عربته الثابتة في المكان، بوجه صامد يميل إلى الاكفهرار، معبرا عن زمن بلقصيري الذي كان ولا يزال مقاوما لأي تغيير جدري، وعلى ضوء مصباحه الغازي ترى خفة يده وهو يشتغل بثقة وسكين "بوضلعة" يطاوعه حين يشطر الخبزة إلى نصفين ويملؤها بحبات النقانق المشوية الشهية ثم يسقيها بذلك السائل الأحمر الحراق الساحر، ويلفها في ورق الجزارين قبل ان يقدمها للزبون. وفي الأثناء تسمع عن بعد صوت السكين يعاد إلى تلك الشبكة التي يشوي عليها بضاعته محركا الجمرات تحت سلاسل النقانق..وهكذا يخدم زبونا ويشير إلى الذي بعده.

بعيني قط جائع كنت أرقب ما يقع من مشاهد تخيلتها مشاهد من جنات النعيم، ولأن عزة النفس كانت وماتزال رأسمالي ومأساتي إلى اليوم فلم يكن واردا عندي أبدا أن اشحذ أو أطلب خبزا ولا نقانق. ولكي أبدو محايدا تماما، كنت أقف وظهري إلى بائق الصوصيط لكني سرقت نظرات كانت كافية لتسجيل نما أصفه لكم اليوم من مشاهد بالعين اللاقطة لصحافي ميداني في الأصل وأسلوب كاتب تمرن على السرد.

وقوفي "المحايد" وسحب الدخان المنبعث من شواية بائع النقانق وعينه اليسرى شبه المغلقة لم يمنعاه من كشف حاجتي. وفي لحظة جاء ذلك الصوت الذي مازال حيا بمسمعي إلى اليوم:

ــ آلموتشو.. إيه..أجي

 لم استحسن نعت "الموتشو" ورغم أني لم أكن أعي مصدر اشتقاقها اللغوي ولا معناها في القاموس فقد أوحت لي بأنها لا بد أن تحيل على شكل طفل قصير أفطس أغبر، وأنا لم أكنه على أية حال، لكني مع ذلك اقتربت منه شبه مندهش. مد لي نصف خبزة محشوة بنقانق ساخنة وفوقها ذلك السائل الشهي.

وقفت وبي دوخة خفيفة من هول المفاجأة فللحظة فكرت أنه ربما ظنني زبونا صغيرا معه مال وسيطلب مني الثمن. تلعثمت قليلا وأجبت:

ــ معنديش لفلوس

ــ غير خود..هاك سخن كرشك

ترددت لكني تناولت نصف الخبزة وتمتمت بكلام كان بين "شكرا" و "الله يرحم الوالدين" و "بارك الله فيك".

وضعت تلك المائدة التي نزلت علي من سابع سماء تحت جاكيط كنت اشتريته صيف ذلك العام مما حصلت عليه من جمعي كيلوغرامات من الحلزون بعتها ونزلت إلى حد أولاد جلول واشتريت ملابس استعدادا للموسم الدراسي.

ومثلما خرجت من البيت أتلفت ورائي أسرعت في المشي مرتابا. وكما يفر فهد ماسكا بفريسة تعب كثيرا قبل الظفر بها فعلت خوفا من أن يتسلط علي مشرد أو سكران فيأخذ مني نصف الخبزة التاريخية.

انتبدت مكانا جنب سور لبناية بالقرب من دار الشباب القدس حاليا وهناك نزلت في الوجبة أكلا بكل اشتهاء وما هي إلا لحظات حتى لم يبق بيدي غير الورق المبلل ببعض المرق اللذيذ.

ولأن الجوع عدو حقيقي فقد انتصرت عليه تلك اللحظة وربما لكي أحتفل بنصري ذلك، وحتى دون استشارتي، انطلقت قدماي ركضا إلى حيث يوجد مركز البريد ثم عدت للبيت واستسلمت لنوم مريح مستحق.

 مر عقدان تقريبا على تلك الواقعة وبقيت في ذهني مقترنة بسبع سنوات عجاف اجتماعيا سمان ثقافيا وإنسانيا قضيتها ببلقصيري. وذات يوم كنت في عطلة من أسبوعين واحترت أين أقضيها.

لندن عابسة ماطرة مكفهرة تثير الاكتئاب. فرنسا غي بعيدة لكنها لا تستهويني كثيرا. إسبانيا لا أطيق عاصمتها حيث لي أصدقاء. لدي دعوة من صديق إلى موسكو لكن لا معنى لاستبدال الثلج بالصقيع وأنا أبحث عن بعض الدفء...ما العمل؟

ثم جاءت الفكرة الضاغطة: إلى المغرب إذا. وبعد ساعات كنت في الميترو عبر خط "البيكاديلي" من محطة "فوكسول" إلى مطار هيثرو، ومنه إلى مراكش..أهلا أفريقيا.

شربت قهوتي بالمطار وبقيت مرتاحا حوالي ساعة، ولم يكن معي سوى حقيبة خفيفة الوزن وحاسوب.

كان الوقت ما بين الظهر والعصر تقريبا وليس يل برنامج محدد لا بمراكش ولا لتلك العطلة.وعندما تكون في هكذا وضعية تعيش المعنى الحقيقي للحرية، سيما إن كان بجيبك آلاف الجنيهات وبحسابك خير وبركة.

فكرت في الذهاب إلى الفندق ومغادرة المدينة الحمراء في اليوم الموالي لكن حالة من القرف الخفيف اعترتني، وعموما ليست الفنادق هي ما يغريني فلقد أقمت في أفخمها وأحقرها في بلدان كثيرة
أخذت سيارة أجرة رأسا إلى محطة القطار ومنه انطلقت إلى القنيطرة حيث أمضيت سنوات من عمري. هذه المدينة ليس فيها ما يغري لكنها قادرة على إقناعك بالبقاء فيها حياتك كلها إن لم تتمرد على سحرها غير المنظور.

نزلت بمحطة القنيطرة المدينة، وهو المكان الذي لم يعد اليوم محطة بعد أن شيدوا تلك المحطة الزجاجية الضخمة بملايين الدولارات، الفاقدة لأي روح مغربية، فيما خدمات القطارات مازالت تعاني أمراضا مزمنة إلى اليوم.

قهوة أخرى وسيجارة "روثمان" ولحظات تأمل أعادتني إلى أيام وسنوات الرحلات المكوكية اليومية من تلك المحطة إلى الدار البيضاء الميناء. دفعت ثمن القهوة ونهضت لا أدري إلى أين.

أنقذني صوت "كورتي": بلقصيري واحد بلقصيري واحد. دون تردد رفعت يدي فصرخ باسم السائق: وا فينك.. يا الله ها بلاصة جات.كدت أقول له من أخبرك أن اسمي "بلاصة" لكني فطنت إلى أني في أرض حلالة وبيني وبين لندن آلاف الأميال.

بعد حوالي ساعة كنت بمحطة طاكسيات بلقصيري و الكورتي "الهوا" مازال معلمة المكان رغم تقدمه في السن.

وبلا أي تخطيط اندفعت أجر خلفي حقيبتي في اتجاه سينما الريف قبالة البلدية وفي كل بضعة أمتار أتوقف لأتأمل المكان والأرصفة.. لا شيء تغير تقريبا.

ومن غريب المصادفات أن ذلك المساء كان باردا مطيرا بعض نسبيا وأنا واقف قرب صاحب الصوصيط والمشهد يثير في مشاعر مزدحمة في النفس والخيال. تسمرت كأن قوة مغناطيسية شدتني إلى الأرض. لا أتقدم ولا أتأخر.

وفي لحظة ما بين الصحو والحلم وجدتني وجها لوجه مع صاحبي.

سلمت عليه فرد بصوت خافت. لم يكن عنده زبناء كثر كما الماضي. تأملني باهتمام ثم ناولني كرسيا فجلست.

ــ شي خبزة عفاك وعمرها

ــ باسم الله.

كنت أزدرد باشتهاء. المذاق نفسه والرجل عينه والمكان هو هو. الماضي والحاضر يتمازجان في رأسي. الفرق الوحيد هو السن بحيث صرت في أواسط عقدي الثالث والرجل صار كهلا، وبجيبي اللحظة ما يكفي لشراء ليس فقط كل هذه النقانق بل ما بثلاجات جزاري المدينة من خرفان.

وقفت ولاحظت أن الرجل مازال يحتفظ برباطة جأشه التي تشبه شخصية عسكري حارب في "لاندوشين" كما لم يفرط في المذياع الذي كان يرافقه في تلك الليالي البعيدة وصوت المرحوم السباعي يجادل ضيوف برنامج "ندوة المستمعين".

طلبت منه أن يشوي كل ما بين يديه من نقانق. نظر إلى مندهشا. زدت في طلبي: عفاك مديرش نص دير خبزات وعمره واحسب.

استجاب لرغبتي الغريبة، وبدأ يفعل ما طلبت منه. حاولت أن أقرأ ما يدور بخلده. ربما ظن أني ذاهب إلى أسرة من أفراد كثر أو إلى حفلة ما تتطلب كثيرا من "الحار".

هو يشوي وأنا ألتفت وكلما مر مواطن يبدو من الطبقة التي أنجبتني أنادي عليه بصوت خافت أو أذهب إليه وأعطيه "خبزته". أنا أفعل وصاحبي ينظر بصمت.

انتهى الشواء ووزعت الخبزات واحتفظت لي بواحدة أخرى.

ــ شحال أشريف؟

ــ ميتين وخمسين درهم قلهاش..

ناولته مظروفا به أضعافها.

اضطرب قليلا ثم سألني: لا لا بزاف...منين انت؟

ــ تعقل على "الموتشو"؟

لا أولدي.. شكون الموتشو؟

طلبت منه إن كان معه كأس شاي فناولني كأسا ساخنا. أشعلت سيجارتي واقتربت منه كثيرا:

قبالتك بثلاثة أمتار تماما، ومن مكانك هذا قبل عشرين سنة، رأيت ما فعلته مع "الموتشو" في مساء بارد وكنت شاهدا.

ــ نسيت..إيه قل لي شنو وقع؟

كان "الموتشو" طفلا جائعا يقف أمامك ها هنا مستديرا بظهره إليك. لم يطلب منك شيئا لكنك أطعته نصف خبزة مجانا.....ذلك الطفل هو أنا.

عانقته وشكرته بالكلمات التي لم أكن أملكها ساعتئذ.

نظر إلي بتأثر ودمعة لمعت في عينه اليمنى...أما أنا فكانت عيناي قد فاضتا بسخاء.

 بعد بضع سنوات سمحت ظروفي بالمرور مرة أخرى ببلقصيري، وحين مررت بالمكان لم أجد العربة ولا صاحبها. سألت بائع سجائر بالتقسيط فأخبرني أن صاحبي قد توفي منذ فترة.

تسمرت بالمكان. قرأت الفاتحة في صمت على روحه..تذكرت القصة بتفاصيلها وتذكرت معها كلام الصوفي سيدي عبد الرحمان المجذوب:

"جيتك من تيط عجلان..والجوع ردني مثل الشظايا...خبزة في بطن جيعان تدي للجنة.. وانت لاش عليك هاد لقرايا؟"

تنهدت.. ثم مضيت.

 

ملحوظة: نشرت القصة للمرة الأولى بموقع "الشوارع" في عز جائحة كورونا وما رافقها من حصار مكاني ونفسي. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent